جبل نيبو هو المكان الذي منه شاهد النبي موسى أرض الميعاد دون أن يدخلها. يقع جبل نيبو على بعد ثمانية كيلومترات إلى الشمال الغربي من مدينة مأدبا، ضمن السلسلة الغربية لمجموعة من التلال الصخرية ذات القمم الكثيرة. ويحد جبل نيبو من الشمال وادي عيون موسى، ومن الجنوب وادي العفريت. تقع أعلى هذه القمم على الجانب الأيسر للطريق – حيث توجد كذلك مجموعة من الطاولات الحجرية المعروفة بالدولمن أو المناطير- وهي جبل نيبو الحقيقي، الذي يقال له بالعربية ’جبل النبا‘ (يرتفع 802 متراً). أما جبل بيسغا (رأس الفسجة) المذكور في الكتاب المقدس (رأس الصياغة) فهو يمتد في المقابل نحو الغرب، لكنه أقل ارتفاعاً (710 متراً). كانت قرية نيبو تقع في ظل منحدر جنوبي يدعى بخربة المخيط (790 مترا).
مشاهدة المزيديهدف بيع التذاكر إلى تغطية تكاليف الموظفين والخدمات وأعمال الصيانة في الموقع.
إتصل بنا
أظهرت أعمال التنقيب الأثري التي تمت مؤخراً في رأس الصياغة، اضافة إلى وجود ستة قبور، بناءاً صغيراً يشبه شكل الصليب يعود على الأرجح إلى ما يسبق الحقبة المسيحية: يشبه هذا البناء مصلى للدفن، تظهر في داخله ثلاث نواح مستديرة اضافة إلى أرضية جميلة من الفسيفساء. وفي حنية المصلى الرئيسية، يبدو أنه قد تم في القرن الرابع بعد المسيح إدخال مقعد للكاهن (سنثرونون) اضافة إلى ردهة للبناء. في هذه الردهة، تم العثور على صليب مربوط بعمل فسيفسائي. وبحسب كتابة تم العثور عليها في المكان فإن هذا الموقع هو "من تأسيسٍ امبريالي، تم في زمن الكاهنين أليكسيس وثيوفيلوس". كما أن هنالك كتابة أخرى تشهد لأعمال ترميم قد تمت "في حقبة الكاهن والأباتي المكرم والورع أليكسيس".
في مصلى آخر يقع بمحاذاة هذا المصلى إلى اليسار، وُضع لاحقاً، على مسافة متر واحد تقريباً إلى الداخل، جرن معمودية من الحقبة البيزنطية. عمل فسيفسائي غاية في الجمال، يتضمن مشاهد تتعلق بالرعاية والصيد، تعود إلى عام 531، ونعلم ذلك بفضل الكتابة الطويلة التي خطت في الأعلى والأسفل. في هذا النص، يعهد الكاتب إلى الربّ ليس بأمر السلطات فحسب - "كالأسقف إيليا" على سبيل المثال- بل ويعهد أيضاً إليه بأمر الفنان نفسه الذي أبدع تلك الفسيفساء: "سويلوس (أي شاول) وكايوموس وايليا وعائلاتهم".
تم في القرن السادس تحويل المصلى الأصلي إلى بيت للكاهن بالقرب من كنيسة بازيليكية، وتمت المحافظة جيداً على الأعمال الفسيفسائية البسيطة التي كانت تزين ممراتها الجانبية، بينما لم يبقى سوى القليل من الفسيفساء التي كانت تزين ممرها الرئيسي. كذلك تبدوا مميزة تيجان الأعمدة المنتشرة في زوايا البناء الأربعة، والتي تأخذ شكلاً يمثل أغصان نبتة الميموزا أو القتات. أما جرن المعمودية القديم، والذي كان يقع على الجانب الأيسر، فقد تمت ازالته، لرفع الأرضية على مستوى البازيليكا وتجميلها برسوم هندسية من الفسيفساء.
في عام 597، تم تصميم جرن معمودية جديد في الناحية الجنوبية (اليمين) من البازيليكا، أي في مكان المصلى الجنائزي القديم. وفي بداية القرن السابع، أضيف في الناحية الغربية مصلى "والدة الإله" (ثيوتوكوس). لذلك فإن مساحة الكنيسة، متى ما أخذنا بعين الإعتبار الإضافات إلى الجوانب، تعادل 30x37 متراً. أما الفسيفساء الغريبة من نوعها التي أرادها الأسقف ليونس (603 – 608) في المصلى المريمي، فهي تقع أمام حنية الكنيسة (دمرها محاربو الأيقونات)، وهي تذكرنا بالمقطع المأخوذ من سفر المكابيين الثاني والذي قد أتينا على ذكره سابقاً، كما أنها تظهر – بين غزالين وباقتين من الورد وعجلين- صورة منمقة لهيكل القدس، أو لعله "المسكن بشكل مغارة"، الذي عثر عليه إرميا النبي على جبل نيبو. كما ونلاحظ صورة النار المتصاعدة من مذبح المحرقات والمائدة لتقدمة الخبز داخل الخيمة. وتشير الكتابة في اليونانية إلى المزمور 51: 21: "حينئذ يقربون على مذبحك العجول". ولا معنى لذكر هذه الآية سوى متى تذكرنا بأنه وعلى مذبح هذا المصلى كان يُحتفل بذبيحة العهد الجديد، التي اكملت الذبائح القديمة. وعلى الجهات الثلاثة –باستثناء الواجهة التي تقع إلى الشرق من المصلى الأصلي- أحاطت بالكنيسة مجموعة من المباني الديرية الكبيرة (78 x 82 متراً).
أما الكنيسة فقد رأت في ذلك المكان "ضريح موسى" الذي سعت ايجيريا إلى زيارته على جبل نيبو بعد انحراف متعب عن طريق القدس. وقد أشارت الحاجّة إلى وجود "كنيسة ليست كبيرة جداً، على جبل نيبو" أقيمت تكريما لذكرى دفن النبي موسى. وحتى لو كرس المرء كل جهده في محاولة تفسير الأصل الذي يعود إليه هذا البناء، يبقى الواقع ما قاله الكتاب المقدس: "ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا"، ويعني قبر موسى (تثنية 34: 6).
يبقى صحيحاً أن هذا الأسلوب في الردع غير كافٍ. فقد حاولت احدى النصوص اليهودية المنحولة، التي تروي "صعود موسى"، ملأ هذا الفراغ. وسيعود العهد الجديد ليتناول هذه المسألة في رسالة يهوذا (غير الإسخريوطي)، التي تروي المعركة التي ساندها رئيس الملائكة ميخائيل في محاولة للحصول على رفات كبار قادة اسرائيل: "مع أن ميخائيل رئيس الملائكة، لما خاصم إبليس وجادله في مسألة جثة موسى، لم يجرؤ على أن يحكم عليه حكما فيه شتيمة، بل قال: "خزاك الرب"!" (يهوذا 1: 9).
بحسب كاتب السيرة، بطرس الإيبيري، الذي جاء إلى هنا في عام 430، فقد تم العثور على المكان الذي فيه دفن موسى على جبل نيبو، وذلك بفضل راعٍ وصل عقب رؤيا بدت له، إلى مغارة عابقة برائحة العطور ومنيرة: كان موسى ممدّداً هناك كرجل مسنّ ملؤه الإحترام، وجهه مُشِعّ، مستلق على سرير يسطع بالنعمة والمجد.
وعندما قام سكان ذلك المكان ببناء الكنيسة، أظهر النبي الذي أعطى الشريعة للشعب "كل بهاءه وقوته من خلال رموز ومعجزات وشفاءات تحدث منذ ذلك الحين دون انقطاع". وهكذا أضحى هذا المكان في الحقبة المسيحية، هدفاً مميزاً لرحل الحج. وقد صعد الحاج الألماني تيتمار أيضاً إليه في عام 1217.
في عام 1932، نجح الفرنسيسكان في شراء قمة الصياغة، وفي عام 1935 اشتروا أيضاً خربة المخيط. وإذ لم يكن لديهم معلومات كافية للتمييز ما بين جبل نيبو وقمة الفسجة، فقد قررت الحراسة شراء كليهما. كان نقل ملكية هذه الأراضي البدوية إلى أيدي غريبة أمراً لا يمكن تصديقه، وما كان ذلك ممكناً لولا الراهب جيرولامو ميهايك، الفرنسيسكاني الكرواتي، الذي سكن في أريحا ونال اعجاب من كان حينها أميراً ما لبث أن أصبح الملك عبدالله الأول، وذلك بفضل فرحه المعدي ومنتجات بستان الخضار الذي كان يملكه (بل ويروى أنه قد عُهدَ إلى الراهب يوماً بحراسة الحرم!). وفي عشية الحرب العالمية الثانية، بدأت حملة للتنقيب عن الآثار في المكان، قادها كل من الراهبين الفرنسيسكانيين المتخصصين بعلم الآثار: سيلفيستر سالير وبيلارمينو باغاتي، من المعهد البيبلي الفرنسيسكاني. واستمرت أعمال البحث على جبل نيبو بعد ذلك تحت قيادة الأب ميشيل بيتشيريلو، منذ عام 1978 وحتى وفاته في عام 2008.
.يذكر الكتاب المقدس جبل الفسجة في نصين مختلفين منه. ويروي النص الأول كيف أن ملك موآب ويدعى بالاق، قد حاول ثلاث مرات اقناع العراف بلعام بلعن الإسرائيليين، لكن ما حدث في كل مرّة هو العكس تماماً. وقد تمت المحاولة الثانية بالذات على جبل الفسجة:
"فقال بالاق لبلعام: "ماذا صنعت بي؟ جئت بك لتلعن أعدائي، فإذا بك تباركهم". فأجابه وقال له: "أليس أن ما يلقيه الرب في فيّ إياه علي أن أقول؟" فقال له بالاق: "تعال معي إلى موضع آخر ترى الشعب منه، لكنك ترى قسماً منه لا كله، فالعنه لي من هناك". فأخذه إلى حقل المراقبين، على رأس الفسجة، وبنى سبعة مذابح، فأصعد على كل مذبح عجلا وكبشا. وقال لبالاق: "قف ههنا عند محرقتك، وأنا أتقدم إليك هناك". فوافى الرب بلعام ووضع كلاما في فمه وقال: "ارجع إلى بالاق وقل كذا". فأتاه، فإذا هو واقف عند محرقته ورؤساء موآب معه. فقال له بالاق "ماذا قال الرب؟" فأنشد قصيدته وقال: "قم يا بالاق واسمع وأنصت إلي يا ابن صفور. ليس الله إنسانا فيكذب ولا ابن بشر فيندم. أتراه يقول ولا يفعل أم يتكلم ولا ينجز؟ ها قد أمرت أن أبارك فقد بارك فلا أكذب. في يعقوب لم أبصر إثما وفي إسرائيل لم أر سوءا. الرب إلهه معه وهتاف الملك عنده. إن الله الذي من مصر يخرجه هو كقرون الجاموس له. لأنه لا تكهن في يعقوب ولا عرافة في إسرائيل. ففي وقته يقال ليعقوب ولإسرائيل ما يفعل الله" (عدد 23: 11-23).
أما المكانان الآخران، اللذان فيهما حاول بالاق اجبار بلعام على لعن اسرائيل، فلا نعلم بالتحديد أين هما: " قريت حصوت" (عدد 22: 29) و"رأس فغور" (عدد 23: 28). ولكن ما يسترعي الإنتباه هو وصف رأس الفسجة "بحقل المراقبين"، مما يتوافق والشكل الطبيعي للمكان الذي يشبه الشرفة. إلا أن رأس الفسجة يحتل مكانة تبدو أكثر أهمية في المقطع الثاني من الكتاب المقدس الذي يذكره. فموسى لم يستطع أن يطأ بقدميه أرض الميعاد، وجلّ ما استطاع فعله هو مشاهدة الأرض من ذلك المكان.
" وكلم الرب موسى في ذلك اليوم عينه قائلا: "اصعد إلى جبل العباريم هذا، جبل نبو الذي في أرض موآب، تجاه أريحا، وانظر إلى أرض كنعان التي أنا معطي بني إسرائيل إياها ملكا. ثم مت في الجبل الذي أنت صاعد إليه وانضم إلى أجدادك، كما مات هارون أخوك في جبل هور وانضم إلى أجداده، لأنكما خالفتماني في وسط بني إسرائيل، عند ماء مريبة قادش، في برية صين، ولم تقدساني في وسط بني إسرائيل. فأنت ترى عن بعد تلك الأرض التي أعطي بني إسرائيل إياها، ولكنك لا تدخلها" (تثنية الاشتراع 32: 48-52).
وعند لحظة تنفيذ الأمر الإلهي، يزودنا النص الكتابي نفسه بتوضيح دقيق في شأن جبل رأس الفسجة:
"ثم صعد موسى من برية موآب، إلى جبل نبو، إلى قمة الفسجة، تجاه أريحا. فأراه الرب الأرض كلها: من جلعاد إلى دان، نفتالي كلها وأرض أفرائيم ومنسى، وأرض يهوذا كلها، إلى البحر الغربي، والنقب وناحية وادي أريحا، مدينة النخل، إلى صوعر. وقال له الرب: "هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلا: لنسلك أعطها. قد أريتك إياها بعينيك، ولكنك إلى هناك لا تعبر". فمات هناك موسى، عبد الرب، في أرض موآب، بأمر الرب. ودفنه في الوادي في أرض موآب، تجاه بيت فغور. ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا" (تثنية الاشتراع 34: 1-6).
ونجد لجبل نيبو أو قمة الفسجة ذكراً من جديد، ولو لم يكن ذلك بالإسم، في سفر المكابيين الثاني. ففي رسالة بعثوا بها إلى اليهود المقيمين في مصر، يذكر سكان القدس نصّاً مفقوداً كتب فيه أن النبي ارميا، وقبل تدمير البابليين لهيكل سليمان، قام بإخفاء الخيمة المقدسة وتابوت العهد ومذبح البخور، على جبل نيبو:
"وجاء في هذه الكتابة أن النّبي، بمُقتضى وحي صار إليه، أمَرَ أن يُذهَبَ معه بالخيمة والتابوت، عندما خرجَ إلى الجبل الذي صعدَ إليه موسى ورأى ميراثَ الله. ولمّا وصل إرميا، وجدَ مسكناً بشكل مغارة، فأدخَل إليه الخيمة والتابوت ومذبح البخور، ثمّ سدّ الباب. فأقبَلَ في وقت لاحق بعض مَن كانوا معه ليضعوا علامة في الطريق، فلم يستطيعوا أن يجدوه. فلمّا علم بذلك إرميا، لامَهُم وقال: "إنّ هذا المكان سيبقى مجهولاً، إلى أن يجمع الله شمل شعبه ويرحمهم. وحينئذ يُظهرُ الربّ هذه الأشياء، ويظهر مجد الربّ والغمام، كما ظهر في أيام موسى وحينَ سأل أن يُقَدَّسَ المكان تقديساً بهيّاً" (المكابيين الثاني 2: 4-8).
يُظهر المشهد من أعلى جبل الفسجة أرض الميعاد، كما بدت لموسى: من البحر الميت مروراً بجبل هيروديون فبيت لحم والقدس (على بعد 46 كيلومتراً هوائياً) حتى قمة قرن سرطبة (قلعة أليكسندريون) وأريحا. وفي الليل، يمكن مشاهدة أنوار المدن.
أما المقام، مع البازيليكا المقامة فوقه وما تبقى من مباني الدير البيزنطي، فهي اليوم تحت اشراف حراسة الأراضي المقدسة.
عند الدخول إلى المزار، تقابل الزائر صخرة تذكارية يصل ارتفاعها إلى ستة امتار، تذكّرنا بزيارة البابا يوحنا بولس الثاني للأرض المقدسة في عام 2000. وفي الجهة المقابلة، نقرأ باللاتينية: "إله واحد أب لجميع الخلق وفوقهم جميعا، يعمل بهم جميعا وهو فيهم جميعا" (أفسس 4: 6). وعلى الجانب الشمالي، إلى اليمين، يظهر أنبياء العهد القديم، الذين رأوا المستقبل ولكن بصورة محتجبة (راجع رسالة بطرس الأولى 1: 10-12).
أما في القسم الذي يعود إلى الفترة اللاحقة، فإننا نجد بالعربية هذه العبارات: "الله محبة"، هذه هي "دعوة السماء ورسالة الأنبياء". وأخيراً عند الناحية الجنوبية، نقرأ من جديد (وهذه المرة باليونانية): "الله محبة" (1 يوحنا 4: 8). ونرى في الأعلى شعار حراسة الأراضي المقدسة.
يضم المتحف الصغير، اضافة إلى النماذج واللوحات التصويرية، عرضاً لبعض المكتشفات الصغيرة – وخاصة المصنوعة من السيراميك- اضافة إلى مَعلَمَين يعودان إلى الطرق الرومانية التي كانت تصل بين حشبون وليفياس أو تل الرامة بالقرب من موقع المغطس عند نهر الأردن، وتدور حول جبل نيبو إلى الشمال.
أما العمود الرئيسي، من بين مجموعة مكونة من ثلاثة أعمدة، فهو مصنوع من الرخام الخالص، لونه أبيض وأسود، وهو من قبو امبريالي، يرجح أن يكون هدية قدمها الامبراطور (قسطنطين؟) للجماعة المسيحية هناك. عثرنا كذلك في البازيليكا البيزنطية، على أعمال فسيفسائية من ثلاث طبقات، بل وفي بعض الأحيان من أربع طبقات، تغطي منطقة مسطحة تصل مساحتها إلى 700 متر مربع. تم تأمين الحماية لها وفصلها؛ وهي معروضة اليوم، بصورة كاملة تقريباً، في داخل البازيليكا الجديدة.
البازيليكا الجديدة
منذ عام 1963، بدأت أعمال اعادة هندسة البازيليكا، أولاً، وبكل بساطة، لتغطية ما تبقى من الضريح المنسوب لموسى، ومن ثم (منذ 2008) ليصبح ممكناً استخدامها كمزار ومتحف ومكان لحماية ما تبقى من الآثار القديمة في وقت واحد.
انتهت الأعمال في عام 2016، وكانت قد أبطأت مسيرتها وفات عالم الآثار المسؤول عن ورشة العمل، ميشيل بيتشيريلو، ومن ثم بسبب اكتشاف تقنيات جديدة للمحافظة على الآثار، بل إعادة اكتشاف التقنيات التي كانت مستخدمة قديماً في صنع الفسيفساء. فقد ثبت في الواقع أن أساليب تثبيت قطع الفسيفساء بالإسمنت، والتي استخدمت خلال سنوات الستينيات والسبعينيات، تضر بالعمل مع مرور الوقت، وأن أسلوب الطلاء بالشيد، وإن كان يتطلب المزيد من الوقت، إلا أنه يدوم لمدة أطول.
تتميز الكنيسة الجديدة بكونها أوسع من الكنيسة البيزنطية، كونها تضم أيضاً الحجرات التي تمت اضافتها ناهيك عن المصليات الإضافية. لكنها تتفق وبيت الكاهن الأصلي والفريد المكون من ثلاث حنيات، تشبه في شكلها القلادة. نلاحظ في الطبقة الحجرية السفلى (الأصلية)، أن العناصر المعمارية قد أعادت استخدام مواد مأخوذة من البناء السابق، كقاعدة أحد الأعمدة، على سبيل المثال، التي تم الآن قلبها. نكاد وللأسف أن لا نعرف شيئاً عن هذه البنية الأصلية، خاصة وأنه لم يتبقى منها سوى ما ندر من مخلفات تلك الحقبة. يحتمل أنه كان بناءاً وثنياً، كما يحتمل بأن يكون مقاماً يهودياً أو سامرياً، أقيم تكريماً للنبي موسى. وقد عثرنا بالفعل، على ما تبقى من كتابة سامرية، تكاد لا تكون مفهومة، محفوظة اليوم في المتحف التابع للمعهد البيبلي الفرنسيسكاني في القدس.
أما نوافذ الحنية، والتي تعود إلى النموذج الأول والريفي للكنيسة، فإنها تُظهر إلى اليسار موسى وهارون مع المياه المتفجرة من الصخرة (خروج 17: 1-6)؛ وفي الوسط، نشاهد موسى يتشفع من أجل الشعب، يعاونه كل من هارون وحور (خروج 17: 8-13)؛ وإلى اليمين مشهد وفاة موسى هنا، على جبل نيبو.
تم في الممر الرئيسي أثناء أعمال الترميم العثور على أمر مهم، وهو عبارة عن قبر لم يستخدم من قبل، ذلك أنه ليس عميقاً بما يكفي، كما أنه لم يظهر أياً من علامات الدفن. وقد تم في هذا القبر استخدام مرمر يعود إلى مقام أكثر قدماً (هيرودسي؟). وإننا لشبه متأكدون من عثورنا على "قبر موسى" الذي قدمت له وصفاً الحاجة ايجيريا:
"في هذه الكنيسة، حيث يوجد المقرأ، شاهدت منطقة مرتفعة بعض الشيء، لها أبعاد تشبه إلى حد ما القبر. فسألت الرجال القديسين ما هو، فأجابوني: "هنا وضعت الملائكة القديس موسى. ذلك أنه كُتب (تثنية 34، 6)، أن أحداً لم يعرف قبره، فلا بد أنهم كانوا الملائكة".
ولترتيب الأعمال الفسيفسائية تم اتباع المعيار التالي: وفقاً للطبقات الفسيفسائية المختلفة، تم وضع الأجزاء المحفوظة بشكل أفضل، أو المنمقة بصورة أكبر، في الموضع الأصلي. أما سائر الأعمال الفسيفسائية فقد عُلّقَت على الجدران في أقرب نقطة. وهكذا فإن سائر الأعمال تقريباً، والتي تعود إلى مختلف مراحل التاريخ الذي مر به هذا البناء، قد عثرت على مكان لها في البازيليكا الجديدة.
النحت الحديث
إن أعمال النحت الجديدة التي نشاهدها ضمن المساحة المفتوحة مقابل الكنيسة، هي من عمل الفنان القادم من فلورنسا، جان باولو فانتوني ما بين عامي 1983 و1984. وهي تمثل الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية ولفها على عصا بشكل يشبه الصليب. قام الفنان بالربط ما بين تاريخ العهد القديم والكريستولوجيا على مثال ما فعله القديس يوحنا الانجيلي. والواقع اننا لا نعلم بالتحديد أين رفع موسى الحية النحاسية أثناء الخروج، ولا يساعد قرب جبل هور على حل هذا اللغز.
"ثم رحلوا من جبل هور، على طريق بحر القصب، ليدوروا من حول أرض أدوم، فنفد صبر الشعب في الطريق. وتكلم الشعب على الله وعلى موسى وقالوا: "لماذا أصعدتنا من مصر لنموت في البرية؟ فإنه ليس لنا خبز ولا ماء، وقد سئمت نفوسنا هذا الطعام الزهيد". فأرسل الرب على الشعب الحيات اللاذعة، فلدغت الشعب ومات قوم كثيرون من إسرائيل. فأقبل الشعب على موسى وقالوا: "قد خطئنا، إذ تكلمنا على الرب وعليك، فصل إلى الرب فيزيل عنا الحيات". فصلى موسى لأجل الشعب. فقال الرب لموسى: "اصنع لك حية لاذعة واجعلها على سارية، فكل لديغ ينظر إليها يحيا". فصنع موسى حية من نحاس وجعلها على سارية. فكان أي إنسان لدغته حية ونظر إلى الحية النحاسية يحيا" (عدد 21: 4-9).
"وكما رفع موسى الحية في البرية فكذلك يجب أن يرفع ابن الإنسان لتكون به الحياة الأبدية لكل من يؤمن" (يوحنا 3: 14-15).
مدينة نيبو هي ما يعرف اليوم بقمة خربة المخيط، وهي تقع على بعد اثنين كيلومتراً من رأس الصياغة. أما القبور الموجودة على هامش التلة فهي تعود إلى الألفية الثانية قبل المسيح. وفي الكتاب المقدس، جاء ذكر نيبو، التي يسكنها رعاة الماشية (عدد 32: 1-4. 37-38)، بين المدن التي أعطيت لسبط رأوبين. تم في المكان اكتشاف منشآت تعود إلى حقبة هيرودس. وفي زمن الأسقف ايوزيبيوس (بداية القرن الرابع)، كانت نيبو قرية متروكة عادت إليها الحياة فقط ابتداءاً من القرن الخامس. بل ويبدو بأنها تمتعت بنوع من الرخاء في القرن السادس.
وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، تم العثور هنا على أربع كنائس. أحدها هي كنيسة القديسين لوط وبروكوبيوس، ولحمايتها فقد تم إنشاء مبنى حجري يغطي ما تبقى منها. ونعلم من خلال القديس ايوزيبيوس، بأن "القاريء" (المعلم) بروكوبيوس السكيثوبولي (سكيثوبوليس هي بيسان أو بيت شآن)، هو شهيد تم قطع رأسه في قيصرية عام 303: وهو أول ضحايا الإضطهادات التي تسبب بها ديوقلسيانس. أما الفسيفساء التي تقع في داخل الكنيسة الصغيرة (16x8,5 متراً تقريباً)، فهي احدى أكثر الفسيفساء تعميراً والأفضل حالاً في الأرض المقدسة كلها، وقد تم العثور عليها في عام 1913 أثناء أعمال البناء لأحد البيوت. وقد تم العثور أيضاً على عشرين ميدالية كبيرة، محاطة بالكرمة، تروي تفاصيل الحياة في تلك المنطقة: الصيد ورعاية الماشية وزراعة الكروم. أما القسم الداخلي (إلى الغرب) للفسيفساء فيظهر، وعلى العكس من ذلك، أشجاراً مثمرة، وأرانب برية وغزلاناً، كما ويظهر أيضاً مذبح المحرقات في القدس مع عجلين وآية المزمور 51: 21 التي تقول: "حينئذ يقربون على مذبحك العجول"، كما في مصلى والدة الإله على جبل نيبو.
تم في عام 1935 اكتشاف الكنيسة الصغيرة المكرسة للقديس جوارجيوس على قمة التلة، وهي تتكون من ثلاث ممرات (12x12،5 متراً). بنيت هذه الكنيسة في زمن الأسقف ايليا عام 536، وقد جرى ضمها إلى مجمّع من الأبنية الديرية وكان لها بئر يقع تحت بيت الكاهن. تم الحفاظ بصورة جيدة على أرضيتها الفسيفسائية.
إلى الشرق، عند منحدر وادي العفريت (عند مدخل الموقع الأثري، أنظر إلى اليسار في الأسفل)، تم الكشف عن آثار ما تدعى "بكنيسة عاموس وكاسيسيوس". لا نعلم لمن تم تكريسها؛ أما الإسم فهو إسم المؤسسين الذي يظهر على المقاعد التي أعيد استخدامها في أحد البيوت العربية الخاصة. وعلى الأرجح أن تكون هذه الكنيسة هي الأقدم في المنطقة. في الناحية الشمالية من الكنيسة، يوجد مبنى اضافي فيه أرضيتان من الفسيفساء الواحدة فوق الأخرى. أمّا المواضيع التي ترويها فهي من جديد الصيد ورعاية الماشية والحياة الريفية. واليوم، لم تعد الشخصية الأنثوية التي رمزت في الماضي إلى الأرض، بارزة للعيان؛ لكننا لا نزال نستطيع أن نقرأ بوضوح الكتابة الموجودة على سطح القوصرة الغائر (الذي يدعى بالطبلة في فن العمارة)، ما بين صورة لطوائيس وديوك وأربعة أعمدة ضخمة: "لأجل خلاص عبيدك سيرجيوس واسطفانوس وبروكوبيوس وبورفيريا وروما وماريا والراهب جوليانوس، ولأجل تقدمتهم". أمّا اللوحة الفسيفسائية فهي من عمل الفنانين أنفسهم الذين عملوا في كنيسة القديسين لوط وبروكوبيوس. تعود الفسيفساء السفلى، التي تم اكتشافها عام 1985، إلى كنيسة أصغر، تم تأسيسها قبل حوالي قرن من ذلك (النصف الثاني من القرن الخامس)، من قبل "الشماس كايوموس"، زمن "الأسقف فيدو". تظهر هذه الفسيفساء، وهي أحد أقدم الأعمال الفسيفسائية، مهارة من قاموا بصنعها.
عند منحدر القمة، نحو الجهة المقابلة لوادي العفريت، تم العثور على دير صغير يتكون من كنيسة (12x9 متراً) وثلاث غرف متاخمة. كان سكان المنطقة من العرب يعلمون بوجود آثار هذا الموقع، وكانوا يدعونه ببساطة: "الكنيسة". لم يتم انقاذ سوى جزء من الأرضية الفسيفسائية للكنيسة، تقع أمام المذبح، وهي تمثل صورة إناء تخرج منه كرمة لها غصنان لكل منهما لون مختلف.
دير والدة الإله
يجب التمييز بين هذا الدير والدير الآخر المكرس لوالدة الإله والذي يقع في أسفل النتوء الجنوبي لجبل نيبو، إلى الشرق من عين الماء التي يدعوها البدو "بعين الكنيسة". تم التعرف على هذا الموقع أيضاً من قبل سالير وباغاتي خلال ثلاثينيات القرن العشرين. أما الأعمال الحفرية فلم تبدأ في ذلك المكان سوى في التسعينيات. كانت كل من الساحة (التي تغطي بئراً) والكنيسة مغطاة بالفسيفساء على حد سواء: إلى جانب المذبح زخرفة على هيئة مجموعة من الأصداف؛ وفي ممر الكنيسة عثر من جديد على ميداليات محاطة بالكرمة، والورود والثمار والحيوانات، قام محطمو الايقونات بتدميرها. لكن أهم ما قد تم العثور عليه هي ولا شك الكتابات المحفورة فوق البساط الفسيفسائي المنمّق بصور تمثل الأحرف الأولى، ويمكن من خلالها التمييز بين فترتين من التاريخ.
في القرون الأولى للمسيحية، عاشت في هذا المكان مجموعة كبيرة من الرهبان الذين حاولوا من جديد وبطريقة داخلية عيش المفارقة التي عاشها موسى حين استطاع أن يرى أرض الميعاد من بعيد فقط، دون أن يدخلها. كان هذا الحضور المسيحي مهماً جداً على مدى الحقبة التي كانت فيها المنطقة واقعة تحت حكم السلطات البيزنطية، وبقيت كذلك إلى أن انتقل الكرسي السياسي للخليفة من دمشق إلى بغداد.